الوادي الشرقي

كان الوادي يُحتَضَر، ولمّا وطأته أقدامنا رَمَقنا بنظرة وكأنّ بعض حياة عادت إليه، وفتح لنا صفحات الذكريات، وتقلّبت فيها الصور والكلمات، فحدّثنا بما نكأ جراحا كنّا نودّ أن تندمل. هل نهض الوادي الشرقيّ من سبات؟ هل عاد ليمدّ البحر البعيد بالأمواه؟21 هل عاد ليسلب الألباب بآيات الجمال، ويقود العشّاق إلى زواياه البعيدة، أم ليسلب الأجساد أرواحها ويلقي بها على شواطئ الحزن؟

لم يكن الوادي كما عهدته! غاب مجراه، واختفت حجارته الملساء، وغارت مياهه الهادرة. لم يعد له روح ولا هيئة، تهدّمت السلاسل الحجرية التي كانت تحفّ ضفّتيه، قطّع الشارع الاستيطانيّ جسده ، وطمس الآبار القديمة، تلاشت أشجار العنب التي كانت تزيّن جوانبه، وبقيت بعض أشجار التّين والزّيتون تعاند الزّمان، وتعطي تعريفا جديدا للخلود، وشاخت أشجار الزّعرور التي كانت تحرس المجرى، ولم تَجُد عليّ إلا ببعض حبيبات تذوّقتها فغشيتني نشوة أحيت فيّ الذكرى.22 

وعادت الصور تتهافت على ذاكرتي: رأيت هذا الجبّار يهدر بالمياه فيجعل قرية بيت حنينا جزيرة معزولة في أيّام الشّتاء. حدّثني الوادي عن بائع الكاز الذي استهان بقوّته؛ فحملته المياه وألقته على صخرات الموت، وحدثني عن تلك العروس التي عادت من القدس تحمل كسوة عرسها، لكنّ الأمطار سبقتها، وتجرّأت هي الأخرى على الوادي فزفّها إلى الفناء.

رغم قسوته، لم يكن الوادي قبيحا في صباه، بل كان موطئ الجمال وموئله. كان عنيفا، لكنّه حمل النّاس على راحتيه وهدهدهم ليناموا دافئين في حضنه الآمن. خلت أنّي أسمع ضحكات الأطفال تأتي من بعيد، من أعماق الزمن، رأيتني ورأيتهم نجوس الوادي، نصنع بأيدينا قاربا صغيرا من ألواح الصبّار ، نلقيه في الماء ونتبعه، نتعثّر أحيانا ونبتلّ، ويتعثّر القارب أحيانا ويعلق بين الصخور، فندفعه لينطلق سريعا مبتعدا عنّا؛ ربّما ليلتحق بوادي المغارة، وربما سيحمله وادي الصرار إلى البحر البعيد. ثمّ نعود لنلعب (السبعة أحجار) في حضرته.23 

وحدّثني الوادي عن نساء القرية، فرأيتهنّ مقبلات يحملن الجرار ويلتقطن الحجارة الصغيرة لتكون رضفا لطوابينهن. ثمّ حدّثني عن الرجال، فسمعت أهازيجهم تأتي من بعيد مُؤذنة بموسم الزّيتون، وسمعت صوت المؤذّن يتردّد صداه على جانبي الوادي فيعزف لحنا علويّا يدغدغ القلوب. 

وودت أن تتقلّب صفحات أخرى أمام ناظريّ، لكنّ الواقع ألحّ عليّ، فرأيت ما حلّ بالوادي من دمار. حزنت، وعدت أدراجي تتقاذفني المشاعر العاصفة. سمعت ثغاء بعض الأغنام، ثمّ رأيت راعي الغنم يجلس على صخرة تداعب أصابعه شاشة هاتفه الّذّكي، هرعت إليه وقد خلت هاتفه تحوّل إلى ناي.

- حدِّثني عن الوادي.

رجوته أن يتكلم.

- رفيقي وأغنامي من يوم غادرنا قرية لفتا .

قال هذا ولم يزد عليه.

أترى يحدّثه الوادي كما حدّثني؟!

الأستاذ عبدالله

كل مشية بالوادي بتخليني اشوفه من منظور جديد. بس مشيتي مع أستاذ عبد الله كانت غير. فتحت باب جديد في خيالي. 

عادة طريقي للوادي بتبلش من باب البيت. بنزل من جنب الجامع وبروح باتجاه تجمع البدو غرباً. هالمرة التقيت بأستاذ عبد الله ع الشارع الرئيسي. كانت الساعة ٥ العصر، طلعنا بالسيارة وأخدنا الطريق اللي كانت تربط بيت حنينا الجديدة مع بيت حنينا البلد. مع تعبيد شارع بيجين الاستيطاني أول سنوات ال٢٠٠٠ وبناء جسر لربط بيت حنينا الجديدة بالشارع، صارت الطريق الأصلية مجرد شارع فرعي ما بمرق منه غير جيبات الاحتلال العسكرية اللي بتعبر بوابة الجدار، وغير عيلة واحدة اللي عزلها شارع بيجين عن باقي القرية.

"شايفة الزيتونة اللي قدامنا؟ صفي السيارة هناك" قلي أ. عبد الله. "هاي الزيتونة شكلها طالعة جديد، محلها كان في ٣ زيتونات كبار اسمهم زيتونات يونس24 ولكنهم احترقوا بعد إشعال عجال بالمنطقة. هون أبعد نقطة ممكن تشوفيها من القرية، اللي كان يجي من القدس أهله كانوا يشوفوه بس يوصل عند الزيتونات واللي طالع من القرية كان يبتلعه خط الأفق بعد زيتونات يونس".

الزيتونة الجديدة طلعت حتى تحمل إرث الشجرات الثلاثة. عند هاي النقطة بيوت بيت حنينا البلد وبساتينها فجأة ظهرت أمامنا مثل وكأننا واقفين على عتبة القرية. نزلنا من السيارة وبلشنا نمشي باتجاه الوادي.  كل ما مشينا اكتر شوي شوي كانت القرية تختفي، مثل وكأنه الشارع عبارة عن سد والقرية سفينة عم تغرق وراه. 

لما وصلنا لنقطة قريبة من الشارع، أول سؤال خطرلي كان: "وين العبارة اللي حكيتلنا عنها؟" أ. عبد الله حكالنا عن الفياضانات اللي صارت بالوادي بعد تمديد خط المجاري وبناء شارع بيجين وأثرها على المزروعات والسكان.25 الحل اللي قدمته بلدية الاحتلال للتعامل مع المشكلة كان فتح عبارة عرضها ٢*٢ متر وطولها حوالي ٢٠ متر اللي بتوفر للمي مسلك مصطنع بديل. ولكن الناس لاقت للعبارة استخدام غير اللي انبنت عشانه. عمال الضفة كانوا يستخدموا العبارة كمفر للوصول لأشغالهم لسنوات طويلة. ولكن اليوم تسكرت العبارة بشبك اللي ما بسمح غير للمي تعبر من خلالها. أخدني أ. عبد الله أشوف العبارة. لما اتطلعت من خلال الشبك حسيت فجأة بعمق الجدار، وكأنه فضاء ثلاثي الأبعاد لا نهائي.

كملنا نمشي جنوباً بمحاذاة الوادي الشرقي وبدأ أ. عبد الله يستذكر بعض المشاهد من الماضي: "هاي المنطقة كانت مزروعة زيتون وتين وعنب بس العنب اختفى مع الوقت… تحت الشارع كان في بيرين مرتفعين بحدود المتر عن الأرض: بير ناجي وبير برهوم."

طريق ترابية، عشرات من شجر الزيتون والتين، حمار مربوط، وراعي قاعد على صخرة كبيرة مع قطيع من الأغنام حواليه، هيك كان المشهد أمامنا. أول مرة بشوف الوادي بهذه الخضرة. انفعلت وبلشت أصور كل اشي بشوفه قدامي. "اذا الوادي بهادا الجمال بعد موسم من الحر والجفاف طال اكتر من العادة، كيف بكون شكله بالربيع؟" سألت حالي.26

شوي شوي الطريق صارت ملانة حجار ملساء. "هاي الحجار هي ما تبقى من مسار الوادي الأصلي" حكالي أ. عبد الله.27 "زمان كان الوادي أوسع وأكثر عمقاً. بالشتا كان يتعبى مي. واحنا صغار كنا نجيب قطعة خشبة صغيرة نتخيلها سفينة ونشوف لوين بياخدها مجرى المي.الأرض كانت تنزرع وتنحرث كل الوقت، كنا نمشي حافيين عليها."28

على حفة الوادي من جهة الشرق سناسل حجرية مهدمة. لما سألت عن السبب في انهيارها كان الجواب هو الإهمال وصعود الغنم عليها باستمرار.29 "هون لفوق كان في مغارة صغيرة، ودايماً كان يكون فيها ثعالب. عشان هيك هاي المنطقة كانوا يسموها الوكر." طلعنا حتى ندور عليها ولكنها كانت مطمورة بحجار السناسل. 

طوال الطريق كان أ. عبد الله يحكيلي عن الزعرور. شجر بحمل ثمرة صغيرة حمرا بتستوي بين شهر أيلول وتشرين الأول. وقفنا حتى نلقط من إحدى الأشجار. "الزعرور والزيتون بتزامنوا بموسم القطف. عادة الزيتون بيحمل سنة بعد سنة. السنة اللي بيحمل فيها بسموها الماسية. أما الزعرور فبيحمل بالسنة اللي ما بيحمل فيها الزيتون. لذلك الناس كانت تقول هاي سنة الزيتون وهاي سنة الزعرور".

بعد ما مرقنا الجسر، شفنا علامات دائرية على الأرض من براز حيوان. "هذا براز غزلان وهاي عالاغلب النقاط اللي ببيتوا فيها" شرحلي أ. عبد الله.

طول الطريق كان يحكيلي أ. عبد الله قصص كتيرة. عن المنطار والناطور، عن الحبلات المزروعة والسماق البري، عن أنواع التين، الخروبي والسماري، عن الأسماء المتداولة للمناطق المختلفة، عن قصص شعبية وأساطير احتواها الوادي لسنوات طويلة. شعرت بوصفه ورواياته شوق لواقع عم ينمحي يوم بعد يوم وما عم بضل منه غير بقايا متداعية، صارت هي الوسيلة الوحيدة لاستحضار بعد الصور من الخيال.

أريج الأشهب

جسر يصل شارع شومان بشارع بيجين الاستيطاني- وادي بيت حنينا، تصوير أريج الأشهب، ، آب ٢٠٢١

بيت حجري قديم ذو طابقين- بيت حنينا التحتى، تصوير سيرين علوي، تموز ٢٠٢١

٢١- وادي بيت حنينا يصب في البحر الأبيض المتوسط في نهاية المطاف، حيث أن شعبه الشرقي ينبع من منطقة الرام وشعبه الغربي ينبع من منطقة البيرة ليلتقيا جنوب قرية بيت حنينا في وادي واحد الذي بتجه غربا بعد قرية قالونيا، ليصبح واد عريض يدعى وادي الصرار ومن ثم يصب في نهر روبين الذي ينتهي في البحر. في القرن التاسع عشر، كتب الكثير من الرحالين المستشرقين عن وادي بيت حنينا، ادعاءاً منهم أنه وادي ايلا الذي ذكر بالرواية التوراتية على أنه الوادي الذي حصلت فيه معركة داود الكبيرة. كتبوا في زياراتهم أنه يحمل اسم وادي بيت حنينا حتى عند قرية قالونيا التي تبعد عشرات الكيلومترات عن قرية بيت حنينا، ليتغير اسمه بعد ذلك إلى وادي اسماعين. كتب الرحال ويتسون عن مسار الوادي في مذكراته:

المصدر: William Whiston, Picturesque Palestine, Sinai, and Egypt, vol. 1 (J.S. Virtue, 1881), 201–4.

٢٢- كتبت أم شاكر على صفحتها "عيون بيت حنينا" عن أنواع الأشجار التي كانت تزرع في القرية وعن مواسم العنب والتين والزيتون:


٢٣- ذكرت أم شاكر على صفحتها أسماء الألعاب التي كان يلعبها الأطفال في قرية بيت حنينا:

٢٤- ذكرت أم شاكر على صفحتها "عيون بيت حنينا"زيتونات يونس عندما تحدث عن الضبع والخرافات حوله:

٢٥-  تقرير لتلفزيون فلسطين من عام ٢٠١٢ يسلط الضوء على الفياضانات التي أغرقت قرية بيت حنينا بسبب اغلاق العبارات في وادي بيت حنينا وأثرها على السكان:

https://youtu.be/3VxuxhkuPoQ



٢٦-  في مقالتها على eflux، وصفت جمانة مناع الوادي في فصل الربيع وتحدث عن النباتات البرية:

"A multitude of edible plants grow in this valley, as in much of the hilly landscape of Palestine/Israel. My parents, who forage frequently, both rave and complain about how quickly the fridge gets filled with greens that they have to wash, chop, and cook—before even going to the market. Between the months of February and May, they collect the following plants: khubeizeh (mallow), shomar (fennel), za’tar (thyme), ‘elt or hindbeh (dandelion), hummeid (bitter dock), loof (black calla), wara’ zquqiah or tutu (ivy-leaved cyclamen), halayoon (wild asparagus), and the much-celebrated ‘akkoub (gundelia). It is indeed possible to live off of these wild leaves and vegetables in the springtime and only go to the grocer for a bag of onions, salt, olive oil, and perhaps some grains. This novelty is particularly poignant in times like these, where supermarket racks and trollies are not only potential virus transmitters, but also a symbol of the world’s agricultural and ecological imbalance.”

المصدر: Jumana Manna, “Where Nature Ends and Settlements Begin,” www.e-flux.com, November 2020,

https://www.e-flux.com/journal/113/360006/where-nature-ends-and-settlements-begin/


٢٧-  في مقابلة لنا مع أم شاكر، تحدثت عن لعبة كان يلعبها أطفال القرية بحجارة الوادي الملساء في يوم كان يسمى خميس البيض، وهو واحد من أربعة أيام يحتفل فيها الناس في شهر نيسان وهي: خميس الأموات، خميس النبات، خميس البيض وجمعة الحلاوة. كان خميس البيض يتزامن مع عيد الفصح لدى المسيحيين  حيث يلون الأطفال البيض ويضرب الواحد منهم بيضة الثاني ومن تنكسر بيضته يهزم. كان بعض الأطفال المشاكسين يستبدلون البيض بحجارة الوادي البيضاوية ويكسرون فيها بيض الاطفال الآخرين فيكسبون.


٢٨-  على صفحة "عيون بيت حنينا"، تحدثنا أم شاكر عن حراثة الأرض في القرية:

٢٩-  في مقابلاتنا مع أهالي بيت حنينا، كنا نستشعر دوماً استياءهم من ممارسات الرعي في القرية اليوم ودوره في تدمير المشهد الطبيعي. حيث أن قرية بيت حنينا كانت قرية زراعية وليست أرض مرعى. على صفحة "عيون بيت حنينا"، تروي أم شاكر صدمتها عندما ذهبت لزيارة منطقة العيون غرب القرية ورأت ما حل بها بسبب المرعى:

كتب عن ذلك أيضا استاذ محمد شاكر عبد الله في كتابه"بيت حنينا: الأرض والتاريخ والإنسان":

المصدر: محمد شاكر عبد الله، بيت حنينا: الأرض والتاريخ والانسان (القدس: المطبعة العربية الحديثة، ١٩٩٣)، ٢٢٥

0:00/1:34

في مقابلة لنا أستاذ عبد الله، تحدث عن لعبة الصبر في الوادي:

0:00/1:34

في مقابلة لنا مع أم شاكر حدثتنا عن استخدام حجارة الوادي الملساء في الطوابين: