الصيحة في الوادي
أسبوعي كان طويل ومرهق. أيامي كانت تتخطى ساعات عملي بالمكتب. لكن تخصيص ساعتين أسبوعيات للمشي في الوادي كان مسألة لا جدال فيها. الوادي كان ملاذي الوحيد.
قررنا أنا وعبدو نلتقي في الوادي مساء يوم الأربعاء. اتفقنا إنه ياخذ المقاطعة من شعفاط للوادي بدل ما ييجي عند بيتي أول، وأنه نلتقي في مكان ما في الوسط. لما وصلت لنقطة اللقاء (حسب فهمي)، اتصلت على عبدو:
أريج: "وينك؟"
عبدو: [معصب] "أنا هون بستناك."
أريج: "وين هون؟ أنا تحت في الوادي. مش شايفتك."
عبدو: "أنا هون جنب الطريق الجديد"
أنهينا المكالمة بعد ما فشلنا نشرح لبعض مواقعنا. في هديك اللحظة أدركت مدى صعوبة تحديد نقاط مركزية في الوادي. الوسط بالنسبة الي مختلف عن الوسط بالنسبة لعبدو. اطلعت حولي أشوف كيف كان ممكن أوصف موقعي بطريقة أفضل. هل كان لازم أذكر مناهل المجاري أو أكوام الزبالة؟ هل كان لازم احكي اني واقفة في بداية طريق التراكتورونات؟ أو يمكن اني واقفة عند سفح الجبل الصخري من جهة الشرق. كل هاي الأوصاف كانت عام جداً بالنسبة الي. أو يمكن فضلت ما أعرّف الوادي من خلالها. "أكيد في بالوادي أكثر من هذا الوصف" قلت لحالي.
بعد بضع دقائق، شفت حدا من بعيد عم يمشي على التل من جهة شعفاط. لما صار قريب قدرت أميّز انه هذا عبدو. أنا وعبدو أصدقاء مقربين. بتصير مرات بيناتنا مناوشات صغيرة. بمجرد وصوله، صار بينا شجار صغير على نقطة اللقاء اللي انتهى بصيحة عالية طلعت من حنجرتي.
"شو هالوادي اللي قدر يحتوي كل هذا الصوت؟!" تساءلت بعد ما سمعت صدى صوتي.4 تمنيت إنه ما حدا يكون سمعني. "هل عناد عبدو هو اللي خلاني اصيح بأعلى صوت؟ ولا الوادي كان أجوف وهامشي لدرجة خلتني أشلح قناع 'كلشي تحت السيطرة' اللي حياة المدينة السريعة بتجبرنا نلبسه؟" كان سهل علي ألوم الوادي.
بعد ما فشيت غلي لفيت ورجعت على البيت. في طريق الرجعة، لقيت حالي عم باخذ الطريق البديل للوادي من جنب حديقة البلدية في آخر الحي. دايماً تساءلت ليش اختاروا هذا الموقع للملعب. أي حدا بشوفه مش ممكن يتخيل انه في اشي عم بصير ورا أسواره. مثل كأنه هو حاجز بين الحي والوادي.
وأنا عم بنزل منحدر الزبالة الصغير، لمحت الراعي أبو سعيد. كان لابس طاقية بيضة. أول مرة بشوفه لابسها يمكن عشان أول مرة بنزل الوادي بالصيف. انبسطت كثير اني شفته بعد هاليوم الصعب والمناوشة مع عبدو. لاقيته قاعد على صخرة مع عصاته وغنماته عاملات حلقة حواليه.
أريج: "أبو سعيد! كيف حالك؟"
أبو سعيد: "أريج، هاي أنت؟ كلشي تمام عمي؟"
أريج: "همم اه... كلشي تمام."
أبو سعيد: "شفتك واقفة هناك مع عبدو. ليش زعلانة يا عمي؟ أول مرة بشوفك هيك! دايما بشوفك بتضحكي".
بهديك اللحظة، تمنيت الأرض تنشق وتبلعني. "لا مش ممكن!" قلت لحالي. "بس كان في بينا عشرات الأمتار معقول سمعني عنجد؟! يا الله شو هالاحراج. صوتي كان هالقد عالي؟! معقول في كمان ناس سمعتني؟"
فجأة شعرت انه الوادي صار واسع ومفتوح. تحول من وعاء اللي بحتوي وبخبي، لفضاء افقي بتدفق وبمتد. في هديك اللحظة الوادي فقد حدوده تماماً، الحدود الوهمية اللي رسمتها في راسي عشان يحتوي صرختي ويخبيني. أو يمكن الحدود الجيواسياسية اللي قسمت الوادي وهمشته نستني انه هو مش بس وعاء للتجارب والاصوات والأجسام وإنما تيار اللي بيحملها لبعيد.5
أريج الأشهب

مشروع إسكان الرباط- شركة مجلس إسكان القدس، تصوير عبدو جولاني، كانون الثاني ٢٠٢١

الراعي أبو سعيد وزكريا يجلسان على صخور الوادي وحولهم الغنم يرعى أعشاب الوادي الجافة، في الأفق مستوطنة راموت - وادي بيت حنينا، تصوير أريج الأشهب، حزيران ٢٠٢١
أجراس الغنم
