عبء الذكريات
لسنين طويلة، بيتي كان البيت الأخير في بيت حنينا. كنت دايماً أحس إنه هو العتبة بين الحي والوادي. ما كان في إشي بفصل بينه وبين البيوت على سفح التل المقابل بشعفاط غير أسوار باطون بتحد بعض الأراضي. دايماً كنت اسأل حالي شو هاي الأراضي وليش متروكة. اليوم عمارات ضخمة عم تطلع بقلب هاي الأسوار. عمارات نمطها بختلف كلياً عن بيوت الحي، كل عمارة ٨ طوابق، كل طابق ٤ شقق. عمارات أشبه بإنها تكون "كفر عقبية".
من شباك غرفتي راقبت منيح عملية حفر الجبل وبناء الأساسات. كمية الطمم اللي طلعت كانت هائلة. الجرافات اللي بتحمل الطمم لخارج الحي كانت تماماً مثل دبابة تعمل هزة أرضية في البيت وتصحينا كل يوم ع الساعة ٦ الصبح لمدة سنتين.
قبل سنة بالضبط، بشهر واحد ٢٠٢١، انا وعبدو وسيرين نزلنا لأول مرة مع بعض على الوادي. صفينا السيارة على الطريق الالتفافي الجديد خلف شعفاط وبلشنا ننزل من سفح التل المقابل لبيتي. النزلة كانت حادة والطريق وعرة.
مواقع بناء في كل اتجاه، الجامع، بيوت الحارة المكتظة، مخلفات البناء ، كلها كانت معالم مكشوفة قدامنا واحنا عم نمشي. صوت الجرافات عم يصدح بالفضاء . من جهة الغرب مستوطنات بتحتل الأفق.
وصلنا لسور بيتي من الجهة الخلفية: "واحنا صغار ولاد الحارة عملوا ملعب فطبول، نظفوا الحجار من الأرض ورسموا فيها حدود الملعب. كل ولاد الحارة كانوا ييجوا يلعبوا هون"، حكيت لعبدو وسيرين.
بتذكر منيح لما الجار جاب جرافة وجرف الملعب عشان يمنع الأولاد يلعبوا بسبب الإزعاج. كانت لحظة مؤلمة لكل أطفال الحي. اليوم في نباتات برية غطت الموقع لكن آثار الحفر لسا موجودة والمشي على الأرض صعب بسبب الطمم.
كملنا نمشي غرباً باتجاه الوادي وشوي شوي البيوت كانت تصغر والأراضي تكبر. على طرف الجبل كان في ناس عم تشوي وأطفال عم بتصيح.
"خطوة بحياة مدينة خطوة بحياة قرية"، علقت سيرين على هالمشهد.
ضلينا نمشي على نفس الطريق لحد ما وصلنا لطريق مسدود والوادي صار مكشوف قدامنا. على شمالنا بآخر الطريق كان في حديقة مسيجة.
"تعالوا نتمرجح شوي" حكيت لعبدو وسيرين.
عبدو: "بنفع نيجي نلعب عادي؟".
سؤال عبدو كان كافي يشرح غرابة هاي الحديقة وموقعها. قبل كم سنة بلدية الاحتلال قررت تعمل حديقة عامة بهذا الموقع. عملياً، بس الناس اللي ساكنة بنفس الشارع بتعرف عن هاي الحديقة. هاي الحديقة هي فعلياً المساحة العامة الوحيدة من بين حديقتين في حي بيت حنينا، حي اللي عدد سكانه اليوم بزيد عن ٣٥ ألف نسمة. 1
على طرف الشارع كان في شابين صافين سيارتهم وقاعدين على كراسي بلاستيك عم بأرجلوا ويتفرجوا على الوادي. وقفنا جنبهم نتفرج كمان. الشمس كانت حلوة والسما صافية. قررنا ننزل الوادي من هناك. كان صعب نلاقي طريق ننزل منها، لأنه السفح كان عالي بسبب نفايات البناء، مشهد متكرر في أطراف المدينة.
في الطريق كان في عظام حيوانات، ملابس، عربة تسوق، وعجال سيارات مرمية في كل مكان . لقينا كيس مواد بناء، فضيناه من الأغراض اللي فيه واستعملناه لنحمل البقايا اللي منلاقيهم. ما عرفنا لشو ولكن حدسنا كان عم بحكيلنا ناخذهم معانا.
على أطراف الوادي كان في ناس بتمشي هون وهناك. صوت المي كان عم بتعالى . ما عرفنا هو بير مي أو مجاري، لكن ريحة المي القوية كانت الجواب.
لقينا صخرة كبيرة مسطحة، أخذنا عليها استراحة قصيرة. قعدنا ناكل كلمنتينا ونحلل التضاريس أمامنا، شو طمم وشو صخر طبيعي، شو مزروع وشو بري. المشهد كان سريالي. جرافات عم تحفر الجبل بالمستوطنة وغزلان على سفح التل المقابل عم بتنط من صخرة لصخرة.
بلشنا نسمع صوت أجراس من بعيد، عرفنا انه الراعي بالمنطقة. لقيناه عم برعى بأوطى نقطة بالوادي. على جنبه كان في طريق مرصوفة حجار فهمنا بعدين، حسب حكي الراعي، انه البلدية بنته عشان تعمل مسلك اصطناعي للمي بالوادي، وبراميل مي مرمية وين مكان.
نزلنا باتجاهه ووقفنا نحكي معاه. حبينا نسأله عن رأيه بمشاريع البناء الجديدة، شو أهمية المواشي وكيف بعتاش منها. أبو محمد كان كريم معنا بالحديث. حكالنا عن مسار مية المطر بالوادي، عن بلده الأصل لفتا، عن مخطط توسيع مستوطنة رامات شلومو، الشوارع الجديدة اللي عم تنحفر وانحسار الأراضي وعن تحديات تربية الأغنام.
سألناه عن النباتات البرية اللي بتطلع بالوادي. حكالنا عن ورق اللسان، الخبيزة، الحويرنة، السعيسعة، والبريدة وقلنا نرجع بشهر ٤ عشان نلقط عكوب. 2 حكالنا عن حيوانات الوادي وعن كيف الحصيني قتل كل الجاجات اللي عنده وصفهم جنب بعض بخط واحد.
لما سألناه عن الغزلان شرحلنا إنه وجودهم مرهون بسيطرة دائرة الطبيعة الاسرائيلية على الوادي، تحت مسمى "محمية طبيعية": "بمستوطنة رامات شلومو في كاميرة بتكشف كل تحرك بصير بالوادي" حكالنا أبو محمد.
ودعناه وكملنا نمشي بطريقنا باتجاه جسر بيجين. بالطريق كملنا نعبي الكيس من المخلفات اللي عالأرض. صرت أنا أحمل من ايد وسيرين من ايد.
كملنا نمشي لحد ما مستوطنة راموت صارت قدامنا.3 حسينا انه الطريق مسدود والكيس صار ثقيل. الشمس غابت واستبدلت بأضواء المستوطنة اللي احتلت خط الأفق من الغرب .
قررنا نرجع أدراجنا ولكن أخذنا طريق غير اللي جينا منها، طريق ترابية بيستعملوها التراكتورونات. على جنب الطريق لقينا جمجمة وعمود فقري لحصان أو حمار. حطينا الجمجمة بالكيس وكملنا نطلع الجبل. الطريق كانت طويلة ووعرة وصرنا نجرّ بالكيس جرّ على الأرض.
حسينا انه عبء الكيس أشبه بعبء الذكريات. ثنيناتهم برمزوا لاشي عم بموت، إن كان جواتنا أو على الأرض.
أريج الأشهب

مشروع إسكان الرباط- شركة مجلس إسكان القدس، تصوير عبدو جولاني، كانون الثاني ٢٠٢١

وادي بيت حنينا باتجاه جنوب غرب القدس تظهر في مقدمتها مخلفات الحي وفي الأفق من اليمين تظهر مستوطنة راموت ومن اليسار مستوطنة رامات شلومو، تصوير عبدو جولاني، كانون الثاني ٢٠٢١

أريج وسيرين تجلسان على صخرة في وادي بيت حنينا، في الأفق يظهر طمم البناء والشارع حديث البناء في مستوطنة رامات شلومو، تصوير عبدو جولاني، كانون الثاني ٢٠٢١

جمجمة حيوان- وادي بيت حنينا، تصوير عبدو جولاني، كانون الثاني ٢٠٢١
١- تقرير لمؤسسة عير عميم يشير إلى أن أحياء بيت حنينا وشعفاط معاً يوجد فيهما حديقتين عامتين فقط بينما مستوطنة راموت لوحدها يوجد فيها ٣٥ حديقة عامة ومستوطنة رامات أشكول يوجد فيها ٢٨ حديقة. لقراءة التقرير: https://www.ir-amim.org.il/en/node/1552
٢- على صفحتها "عيون بيت حنينا" تحدثنا أم شاكر عن أنواع النباتات البرية المختلفة التي تنبت في ريف بيت حنينا:

٣- بنيت مستوطنة راموت على أراضي بيت حنينا ولفتا حيث يسمى الجبل الذي أقيمت عليه جبل تليليا. يقع الجبل شرقي وادي بيت حنينا عند نقطة التقاء الوادي الغربي بالوادي الشرقي. يوجد فيه خربة وهي من بين عدة خرب تحيط بالقرية منها خربة تل الفول شرق القرية، خربة عداسة شمالا وخربة حزور التي تحتوي على مدافن وأحواض مهدمة. في كتابه " بيت حنينا: الأرض والتاريخ والإنسان" كتب الأستاذ محمد شاكر عبد الله عن خربة تليليا:

صوت الجرافات
الراعي أبو محمد يتحدث عن انحسار الأراضي

